الأولمبياد في ظل الإبادة- هل تتخلى باريس عن قيمها؟

المؤلف: طافي مهكا10.20.2025
الأولمبياد في ظل الإبادة- هل تتخلى باريس عن قيمها؟

بعد أقل من أسبوعين، وتحديدًا في السادس والعشرين من شهر يوليو/تموز القادم، سوف تنطلق فعاليات دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2024 في مدينة باريس الساحرة، حاملةً معها بهجة غامرة وإثارة لا تُضاهى، والأهم من ذلك، أنها تمنح العالم أجمع إحساسًا عميقًا بالتكاتف الإنساني، وتوقظ مشاعر الوحدة والتآزر بين عشاق الرياضة في كل بقاع المعمورة.

سيتابع الملايين من البشر، من قارة أفريقيا الشاسعة إلى قارة آسيا المترامية الأطراف، ومن أرجاء أوروبا المتنوعة إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، بشغف بالغ عبر شاشات التلفاز، وهم يشاهدون نخبة الرياضيين العالميين الذين يمثلون بلدانهم، ويرتدون بكل فخر ألوان أعلامهم الوطنية الزاهية، ويتنافسون بشراسة وشرف للفوز بأغلى الألقاب، ويحتفلون ببهجة غامرة بالإنجازات التي حققوها. وسيشاهد الأطفال على وجه الخصوص، بعيون متفتحة وآمال عريضة، ما يمكن تحقيقه من خلال الإصرار والعزيمة والعمل الجاد الدؤوب، وكيف يمكن للرياضة أن تكون جسرًا للتواصل ورمزًا للوحدة يجمع الشعوب على اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم.

لكن بالنسبة للإخوة الفلسطينيين الذين يكابدون مرارة العيش تحت وطأة الحرب الضروس التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة المحاصر، فإن دورة الألعاب الأولمبية لعام 2024 لن تكون سوى تذكير مؤلم ولافتة صارخة أخرى على تجاهل العالم لمعاناتهم التي لا تنتهي.

إن آلاف الأطفال الفلسطينيين الأبرياء الذين تشوهت أجسادهم الغضة، أو فقدوا آبائهم وأمهاتهم وأصبحوا أيتامًا، أو نزحوا قسرًا من ديارهم التي أصبحت خرابًا، أو تعرضوا لصدمات نفسية عميقة وجروح لا تندمل بسبب العدوان الإسرائيلي الغاشم، لن يكونوا على علم حتى بوجود هذه المنافسة الرياضية العالمية الهامة التي تقام في فرنسا. سيكون جل اهتمامهم وغاية مسعاهم هو البحث المضني عن الماء الصالح للشرب والغذاء الذي يسد رمقهم والمأوى الذي يحميهم من قسوة الظروف، وسيكونون مشغولين بالحداد على أحبائهم الذين سقطوا شهداء، ومنازلهم التي دمرت بالكامل، ومستقبلهم الذي سُرق منهم عنوة. لن يكون لديهم أدنى اهتمام بمن هو العداء الأسرع، أو من هو الرياضي الذي يقفز أعلى في سماء باريس.

منذ السابع المشؤوم من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحول قطاع غزة المحاصر إلى مسرح لمأساة إنسانية غير مسبوقة، وكارثة بكل المقاييس. ووفقًا لتقديرات متحفظة للغاية، ارتكب الجيش الإسرائيلي جرائم بشعة وفظائع لا تغتفر، ففي غضون تسعة أشهر فقط، قتل ما يزيد على 38 ألف شخص، وأصاب نحو 90 ألفًا آخرين بجروح خطيرة، بمن فيهم أكثر من 15 ألف طفل بريء. لقد تُرك العديد من الأطفال فريسة لليتم والوحدة، وأدى الهجوم الإسرائيلي الشرس إلى تدمير ممنهج لمعظم المدارس والمستشفيات في القطاع. لم تعد هناك جامعات قائمة، وأصبح معظم قطاع غزة، الذي كان في يوم من الأيام موطنًا لأكثر من مليوني شخص، مجرد أنقاض متناثرة ورماد.

في ظل هذا السياق المأساوي غير المسبوق والأحداث الجسام، لا ينبغي لدورة الألعاب الأولمبية أن تمضي قدمًا بمشاركة إسرائيل، وكأن شيئًا لم يحدث على الإطلاق. فوفقًا للميثاق الأولمبي النبيل، تسعى الألعاب الأولمبية إلى إرساء أسلوب حياة يقوم على جملة من الأمور، من بينها "احترام حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا والمبادئ الأخلاقية الأساسيّة العالمية السامية".

إلا أن إسرائيل، ومنذ نشأتها المشؤومة، دأبت على انتهاك هذه الحقوق والمبادئ بشكل صارخ وفظيع دون أدنى رادع أو وازع، ودون أن تتحمل أي عواقب وخيمة.

فعلى مدى 76 عامًا، مارست إسرائيل نظام الفصل العنصري البغيض على الفلسطينيين بكل قسوة ووحشية، وأثبتت عجزها التام عن الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، أو التقيد بالقيم الأولمبية الأساسية النبيلة.

تشمل انتهاكاتها الصارخة واسعة النطاق، مصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية عنوة، وأعمال القتل خارج نطاق القانون، والتهجير القسري للسكان الأصليين، والقيود الصارمة على حرية الحركة والتنقل، والاعتقال التعسفي للمدنيين، وحرمان الفلسطينيين من حقهم الأصيل في الجنسية والمواطنة.

وعلاوة على ذلك، فخلال الأشهر التسعة الماضية، انخرطت تل أبيب في حرب إبادة جماعية ممنهجة ضد الفلسطينيين العزل في قطاع غزة المحاصر.

وبناءً على ذلك، فإن مشاركة إسرائيل في ألعاب هذا العام، بينما تستمر في ذبح الفلسطينيين الأبرياء يوميًا وبلا هوادة، سيكون خطأً فادحًا ذا أبعاد غير مألوفة وعواقب وخيمة. ولن يكون ذلك بمثابة استهزاء بالقيم الأولمبية النبيلة فحسب، بل سيشجع الحكومة الإسرائيلية أيضًا على مواصلة قتل الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين الأبرياء بدم بارد.

قد يرى البعض أنه يجب السماح لإسرائيل بالمشاركة في الألعاب الأولمبية؛ لأن "السياسة والرياضة يجب أن تظلا منفصلتين تمامًا"، بينما يزعم آخرون بأنه لا ينبغي معاقبة إسرائيل "لدفاعها المشروع عن نفسها ضد حركة حماس".

إلا أنه لا قيمة لأي من هاتين الحجتين الواهيتين، فالقتل الجماعي للأطفال الأبرياء، والتدمير المنهجي للمدارس والمعاهد التعليمية، وتسوية المستشفيات والمراكز الطبية بالأرض ليست "أعمال دفاع عن النفس" أو مجرد خلافات سياسية يمكن وضعها جانبًا عند ممارسة الرياضة. بل إنها جرائم بشعة ضد الإنسانية جمعاء لا ينبغي تجاهلها أو تبريرها تحت أي ظرف من الظروف. وإن أي دولة تتورط في ارتكاب مثل هذه الجرائم الشنيعة يجب أن تُقابل بإدانة وإقصاء عالميين فوريين.

في شهر فبراير/شباط الماضي، تقدمت مجموعة مؤلفة من 26 مشرّعًا فرنسيًا بطلب رسمي إلى اللجنة الأولمبية الدولية، وحثتها بكل إلحاح على استبعاد إسرائيل من المشاركة في الألعاب الأولمبية القادمة في باريس.

وأصرت هذه المجموعة على أنه يجب السماح للرياضيين الإسرائيليين بالمشاركة تحت علم محايد، على غرار الطريقة التي من المتوقع أن يتنافس بها الرياضيون الروس والبيلاروسيون في ألعاب هذا العام؛ بسبب عدوان بلديهما المستمر على دولة أوكرانيا المستقلة.

كما ناشدت الأندية الرياضية الفلسطينية، ومراكز الشباب النابضة بالحياة ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة، اللجنةَ الأولمبية الدولية بأن تلتزم بمبادئها السامية وتفي بالتزاماتها الأخلاقية، وطالبت باستبعاد إسرائيل من الألعاب الأولمبية، على الأقلّ حتى تتخلى عن نظام الفصل العنصري البغيض الذي تتبعه.

لن تكون هذه سابقة تاريخية فريدة من نوعها، فقد مُنعت جنوب أفريقيا العنصرية من المشاركة في الألعاب الأولمبية لعامي 1964 و1968. وفي شهر مايو/أيار من عام 1970، تم طردها نهائيًا من الحركة الأولمبية.

كان استبعاد جنوب أفريقيا من الألعاب الأولمبية نتيجة مباشرة لانتهاكها الصارخ للقاعدة الأولى من الميثاق الأولمبي، التي تحظر بوضوح لا لبس فيه التمييز ضد أي دولة أو فرد على أساس العرق أو الدين أو الانتماء السياسي. ولم يتم قبول البلاد مرة أخرى في الحظيرة الأولمبية إلا بعد سقوط نظام الفصل العنصري المقيت عام 1991.

إنه لمن المخزي حقًا أن اللجنة الأولمبية الدولية، التي فعلت الشيء الصحيح في الماضي، واستبعدت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من الألعاب، واتخذت إجراءات ذات مغزى للحد من مشاركة روسيا وبيلاروسيا هذا العام، تبدو غير راغبة على الإطلاق في فعل الشيء ذاته مع نظام الفصل العنصري القائم في إسرائيل.

ومع رفض المسؤولين التمسك بالقيم الأولمبية النبيلة واستبعاد إسرائيل، فإن مسؤوليتنا المشتركة في دورة الألعاب هذا العام هي تسليط الضوء بقوة على جرائم إسرائيل المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.

يمكن للمشاهدين في باريس أن يعبروا عن دعمهم لفلسطين من خلال الهتافات الحماسية والاحتجاجات السلمية، كما يمكن للرياضيين أيضًا استخدام الأضواء الكاشفة التي ستسلط عليهم للفت الانتباه إلى المأساة الإنسانية في غزة، وتنظيم احتجاجاتهم الخاصة، أو على الأقل إظهار التضامن العميق مع الفلسطينيين من خلال ارتداء الكوفية الفلسطينية رمز العزة والكرامة على أكتافهم أمام عدسات الكاميرات.

إن الألعاب الأولمبية لها قيمة عظيمة؛ لأنها تجمع دول العالم معًا في منافسة ودية شريفة لمدة أسبوعين كاملين، وتذكرنا بإنسانيتنا المشتركة وقيمة التضامن الإنساني النبيل.

ولكن إذا سُمح لإسرائيل بالمشاركة في الألعاب دون أي احتجاجات أو معارضة تذكر، وخاصة هذا العام، وهي ترتكب إبادة جماعية بشعة ضد شعب يعيش تحت احتلالها الغاشم، فإن الألعاب ستفقد معناها الحقيقي، وستصبح مجرد مشهد فارغ آخر يتم تقديمه لتسلية الجماهير وزيادة الاستهلاك التجاري.

ومع عدم رغبة اللجنة الأولمبية الدولية في دعم القيم الأولمبية السامية والقيام بالشيء الصحيح، فإن الأمر متروك لنا، كمواطنين عالميين مسؤولين، لضمان أن تخدم الألعاب غرضها النبيل وتعزز "حقوق الإنسان" و"المبادئ الأخلاقية الأساسية العالمية" على أكمل وجه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة